مدينة نيويورك ليست ككل المدن العادية في العالم، فعدد سكانها يلامس 8 ملايين نسمة تقريبا، يشمل اليهود 13% والمسلمين 8% من سكانها، وهي مدينة متعددة الأعراق والديانات، وهي مركز كبير للاستقطاب السياسي والمالي، ويكفي أن نذكر أن خمسة رؤساء أمريكيين سابقين نشؤوا وترعرعوا في نيويورك. ميزانيتها بلغت حوالي 116 مليار دولار، أي ما يعادل ميزانية المغرب وتونس وموريتانيا مجتمعين!!!
لكن كيف صعد اليسار التقدمي في المدينة بطريقة كبيرة جعلت من شاب مسلم اسمه زهران ممداني يهزم مرشحي المؤسسة التقليدية للحزب الديمقراطي بكل رموزها في الانتخابات التمهيدية وبطريقة مريحة، وبفارق كبير جدا لم يتوقعه حتى ممداني نفسه؟
في البداية، من أين أتت خلفية الشاب الفائز؟ فهو ابن أسرة مثقفة، حيث إنه حينما استقلت أوغندا عن بريطانيا سنة 1962، منحت الولايات المتحدة الأمريكية 25 منحة دراسية، كان من بين الممنوحين والده الذي ترجع أصوله للهند، وقدم آنذاك طالبا متميزا وأصبح أستاذا في جامعة كولومبيا العريقة. وأمه مخرجة سينمائية، يعني مرتاحين من الناحية المادية ولهم وزن ثقافي. وسبق لوالده أن اعتقل على خلفية نضاله من أجل الحقوق المدنية في ولاية ألاباما في النصف الثاني من القرن الماضي.
ممداني لم يخرج عن دائرة والده، وكان متشبعا بفكر اليسار التقدمي، معتبرا النظام الرأسمالي فيه ظلم كبير للمواطنين الأمريكيين. وبعد حصوله على الجنسية الأمريكية، انخرط بشكل واسع في النضال السياسي والاجتماعي، وكانت أولى خطواته أنه أعلن إضرابا عن الطعام لمدة أسبوعين تضامنا مع ملاك سيارات الأجرة في نيويورك، حيث تراكمت عليهم الديون بفعل منافسة التطبيقات الذكية، وقد انتحر ثلاثة منهم على الأقل. وبالفعل، نجح الشاب اليساري بمعية آخرين في التشطيب على ديون مالكي سيارات الأجرة، والتي وصلت إلى 450 مليون دولار.
بعدها جاءت الحرب على غزة، وكان حاضرا في كل المظاهرات التضامنية في نيويورك وغيرها من المدن الرئيسية، وقام بإضراب عن الطعام أمام البيت الأبيض لمدة سبعة أيام. وقبل ذلك، فاز بعضوية كونغرس ولاية نيويورك، وبدأ نجمه يسطع في ظل نفور كبير للشعب الأمريكي من المؤسسات الحزبية التقليدية، سواء في شقها الجمهوري أو الديمقراطي. ففي اليمين بزغ نجم اليمين المتشدد، وفي اليسار ظهر اليسار التقدمي، خاصة وسط الشباب، حيث إن الذين صوتوا على زهران ممداني في الانتخابات أغلبهم من الشباب، 40% منهم تقل أعمارهم عن 40 سنة.
وكان خطابه مسموعا، وخاطب سكان نيويورك بلغة يفهمونها، حيث قدم برنامجا اقتصاديا واجتماعيا متكاملا يعبر عن أفكاره التقدمية، فوعد بجعل النقل في الحافلات مجانا، ومجانية حضانة الأطفال، وتحديد سقف لأثمنة الكراء، وإنشاء محلات كبرى لبيع الحاجيات الأساسية للمواطنين بأثمنة رخيصة جدا للفقراء، وطبعا أمورا أخرى ثانوية نسبيا. وقد انخرط الفقراء والطبقة المتوسطة أو جزء منها في حملته الانتخابية، حيث وصل عدد المتطوعين خمسين ألف متطوع، زاروا أكثر من مليون بيت، وساهم الآلاف ماديا في حملته، وأغلب المساهمات المادية كانت بسيطة، حيث جمع 8 ملايين دولار، وساهم في ذلك حوالي 19 ألف مساهم، في حين جمع منافسه الرئيسي، الحاكم السابق للولاية كومو، أزيد من 20 مليون دولار، جاء أغلبها من الأثرياء ورجال المال والأعمال، خاصة أن زهران ممداني قرر زيادة الضريبة على من تصل أجرتهم إلى مليون دولار في السنة، وهذا أثار غضب الطبقة الغنية في نيويورك.
زهران نجح في التواصل مع الناخبين باللغة التي يفهمونها، وهي القدرة الشرائية، والتضخم، ومساعدة كل من يحتاج المساعدة، وجعل مدينة نيويورك مستجابة لحاجيات سكانها. وفي المناظرة، كان حادا مع خصومه، خاصة المنافس الرئيسي كومو، وحينما كان كل خصومه يؤكدون على أن أول دولة سيزورونها هي إسرائيل بعد تتويجهم، اختار هو نهجا آخر، حيث قال إنه لن يزور إسرائيل، بل سيجلس في نيويورك ليحل مشاكل سكانها، ورفض الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، بل كدولة يتعايش فيها الجميع. وطبعا اعتبر نتنياهو ومودي، رئيس وزراء الهند، كوجهين لعملة واحدة، وأكد بأنه في حالة وطأت قدم نتنياهو نيويورك، فإنه سيلقي عليه القبض لأنه مبحوث عنه من قبل محكمة العدل الدولية.
عموما، هناك حالة استنفار كبيرة في الحزب الديمقراطي التقليدي لقطع الطريق على أول مسلم قد يجلس على عرش المدينة، حيث إن الرئيس الأسبق كلينتون وزعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ شاك شومر وغيرهم ساندوا كومو، في حين وقف السيناتور بيرني ساندرز واليساريون داعمين لزهران. وحتى الرئيس ترامب ساند المرشح الديمقراطي كومو، وغرد أكثر من مرة عن زهران، واعتبره شيوعيا ويساريا متطرفا، وأنه يشعر بالصدمة إذا فاز برئاسة نيويورك.
عموما، الانتخابات النهائية ستجرى في نونبر، وستكون حاسمة في مدينة كبيرة كنيويورك. وتبدو حظوظه كبيرة، لأن عدد الديمقراطيين أكثر ثلاث مرات من الجمهوريين في المدينة. وأكيد أن هناك حراكا سياسيا كبيرا في الولايات المتحدة، ونيويورك نموذج لما قد يقع في المستقبل، في ظل تراجع الإعلام التقليدي عن توجيه فئة الشباب التي تسيطر على السوشيال ميديا.
وسننتظر ونرى.